موسيقى مطرزة بتلوينات تراوح بين النغمي والإيقاعي والإنساني، وموشحة بجمالية تستمد روحها من عمق الصحراء الافريقية، ومن رقصات حبات رملها في المغرب وموريتانيا عبورا إلى كل صحاري إفريقيا، بعض من توصيفات عرض “باب لبلوز” ضمن سهرة “جاز قناوة” في سيكا جاز.
“باب لبلوز”، مشروع موسيقي فني وإنساني ينهل من موسيقات مختلفة ليخلق لنفسه حالة موسيقية عنوانها الاختلاف والحب والانفتاح وتغازل ألحانه الأرواح وتدعوها إلى الرقص في مساحة لا مكان فيها لأحزان ولا أدران.
ما إن قالت موسيقاها قولها الأول على ركح مركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف، تراقصت الأجساد معلنة ميلاد ليلة مدادها من موسيقى، موسيقى من فرح وثورة راقصت كل شيء من حولها واهتزت على إيقاعها الأثير.
تجل آخر مختلف وملهم لموسيقى القناوة يتبدى على الركح، فيما تغازل أنامل يسرا منصور و”بريس بوتِن” القمبري ليتصاعد غنج أوتاره ويملأ المكان حكايات عن العشق الذي تحمله هذه الآلة داخلها، وتتسلل إيقاعات القباقب والدرامز والفلوت إذ يداعبها العازفان “حفيظ الزواري” و” جيروم بارتولوم” لترسم ملامح أخرى لعرض يخاطب الإنسان حيثما كان.
على الخشبة، خطابات موسيقية مختلفة لأربعة عارفين بمسارات وتجارب متنوعة جمعهم مشروع “باب لبلوز” الذي لا تخلو تسميته من معاني عميقة، ففي الباب إحالة إلى الأبواب التي تميز مراكش المغربية وأما البلوز ففيها تحد لكل من نسي أن البلوز ولد من رحم الصحراء الافريقية.
انسجام وتناغم وطاقة لا تحدها جدران قاعة العرض، بعض من ملامح التفاعل بين رباعي المجموعة على الركح، تفاعل لم يقتصر عليهم بل تجاوز الركح إلى مقاعد الجمهور الذي أبى إلا أن يواصل السهرة راقصا على صوت إفريقيا الذي ينفتح في كل مرة على ركن من العالم.
مزيج من النشوة والحماسة والحنين والفرح والثورة، يظهر في صوت يسرا منصور وهي تتلو شعرا حسانيا تنتصر فيه للنساء الموريتانيات ضد السلطة الابوية الذكورية، وتروي حكايات من الصحراء على طريقتها وتخاطب جمهورها وتصغي إليها الأجساد بإمكان.
قصص منسية بعثت فيها “باب لبلوز” حياة أخرى في توجه فني محمّل بالالتزام والرغبة في كسر كل الأطر التي يشيدونها حول الموسيقى وحول المرأة، توجه فني يجعلك تتفكّر في كل ذلك الارث الموسيقي الكامن في الصحراء الإفريقية بكل زخمه.
توليفة ساحرة للموسيقى، خلق فنّي عماده الحفر في الذاكرة، وفلسفة قائمة على التحرر من كل القيود، توصيفات للعرض تظهر في حركات العازفين على الركح وفي تعبيرات يسرا منصور التي ملأت الخشبة رقصا وصنعت هالة من الروحانية بحركات شعرها المتموج.
ومن ثنايا عرض “باب لبلوز” تعبق انفاس إفريقيا بكل وزواياها، افريقيا متنوعة ومختلفة، جامعة بين الهوية والأصالة وانفتحت على كل التلوينات تماما كالموسيقى التي يخلقها الرباعي الذي يعزف موسيقاه بأسلوب يجد طريقه إلى الأرواح قبل الأجساد.
حكايات العشق التي ظلت بعيدة عن الأعين، رغبات التحرر، وحركات الرفض، الثورة على السائد والمألوف والنمطي، وصرخات الفرح الجامح، كلها تجلت في الموسيقى التي انتفى عندها الزمان والمكان واللغة، لا شيء هنا سوى الإنسان.
أصوات الرياح إذا ما عزفت ألحانها في امتداد الصحراء، وإيقاعات حبات الرمل إذا ما تسربت من بين الأيادي، وخطوات الصابرين عليها والانفاس العالقة في ثناياها، ظهرت في صوت يسرا منصور وفي الموسيقى الصادحة في مرافقته.
ولأن في موسيقى “باب لبلوز” سحر لا يمكن مقاومته، كان من الصعب على المجموعة مغادرة الركح عند انتهاء الوقت المخصص للعرض، لتواصل الموسيقى الحديث وتهتز الأجساد فرحا بها وتستمر المجموعة في خلق عوالم موسيقية ملؤها الانتهاء.
والكيمياء التي نشأت بين المجموعة الموسيقية والجمهور ليست سوى دليل على تمكن الرباعي المكون لها من تفاصيل موسيقاهم وعلى منسوب الحب والشغف في العلاقة بينهم من جهة وفي علاقة العازفين بالآلات الموسيقية من حولهم.
المصدر : Hakaek Online